ولا ينتصِر إلا الحب

– حسنًا، لن تذهبي إلى ذلك المكان المليء بالإثم والرذيلة، سأُدرّسُكِ كلّ ما تحتاجين معرفته بنفسي.

قد يخالُ المرء أنّها علّمَتني اللغات والرياضيّات والتاريخ، إلا أنّها رمَت كتبي، وإضافة إلى الدروس في الدين، هي درّبَتني على الأعمال المنزليّة والطهو والأشغال اليدويّة، وبقيَت تُردِّد: “هذا كلّ ما عليكِ معرفته لتستحقّي العَيش هنا”.

ماذا؟!؟ هل هي كانت تنوي تحويلي إلى عاملة تنظيف لدَيها؟

أمّا بالنسبة لجدّتي، فهي كانت حاضرة غائبة، بسبب كبر سنّها الذي أثَّرَ على قدرتها على التركيز والتحليل. كلّ ما كان يهمُّها هو أن تحصل على حاجاتها الشخصيّة، تاركةً زمام الأمور لِرهَف التي كانت بالفعل ربّة البيت. هل أحبَّتني العجوز؟ لستُ أدري، ففي معظم الأحيان هي كانت تنظرُ إليّ وكأنّني غريبة عنها، وحصَلَ مرارًا أن سألَتني مَن أكون.

ووسط هذا المناخ غير السليم، لَم تسأل أمّي عنّي ولا أبي، بل تابَع كلّ منهما حياته وكأنّني لَم أولَد قط. عائلة عظيمة بالفعل!

تابعَت خالتي “تدريبي” إلى حين صرتُ مُطيعة لها، وبعد أن استعملَت معي العقاب اللفظيّ والجسديّ. هي كانت تحمِلُ معها بصورة دائمة قضيب خيرزان طويلاً وقويًّا لتستعمله عليّ كلّما رأت أنّني “أنحرِفُ” عن المسار. بكيتُ بسبب التوبيخ والألَم، لكن ما مِن أحد كفكَفَ دموعي.

مرَّت سنتان ثمّ توفّيَت جدّتي خلال نومها، لكنّ والدتي لَم تتكبّد عناء حضور دفنها، ربّما كَي لا أراها وأُصّرُّ على الرحيل معها. وهكذا بقيتُ لوحدي مع “المُستبِدّة” كما أسمَيتُها، وهي استفحلَت في تربيتها لي.

ثمّ حدَثَ ما لَم أكن أحسب حسابه: جاءَت إلى المبنى المُقابِل عائلة مؤلّفة مِن أب وأمّ وصبيّ وفتاة. لَم أعرِف بالأمر إلا عندما رأيتُهم يتنقّلون مِن غرفة إلى أخرى أمامي، ورأيتُ الشبابيك مُضاءة. ورأيتُ أيضًا سامِر، صبيّ في الثالثة عشرة مِن عمره. كان يكبرُني بحوالي الثلاث سنوات إلا أنّه رأى فيّ شيئًا مُميّزًا بالرغم مِن لباسي الغريب. هو لَم يسخَر منّي كباقي أولاد سنّه حين رآني مِن شبّاكه، بل أومأ لي بِيَده وابتسَم قَبل أن يغيبَ عن نظري. كان سيُصبحُ سامِر الانسان الوحيد الذي أبدى لي نوعًا مِن الاهتمام والمحبّة… وأكثر.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7الصفحة التالية
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى